-

الهروب من المشاعر بالتنظيف

(اخر تعديل 2025-05-05 10:11:33 )
بواسطة

في أوقات الضغوط النفسية، قد نجد أنفسنا ننجذب إلى أعمال التنظيف والترتيب بشكل غير متوقع. فبينما نحن غارقون في مشاعر الحزن أو التوتر، نجد أنفسنا نلتقط المكنسة، أو نعيد تنظيم خزائن الملابس، أو حتى نتفقد المطبخ الذي تم تنظيفه منذ فترة قريبة. وقد يبدو هذا السلوك طبيعياً أو حتى إيجابياً، لكنه في العمق يعكس شيئاً أكبر من مجرد حب النظافة.

إنه يمثل وسيلة هروب ناعمة ومقبولة اجتماعياً من مواجهة مشاعر قد تكون مؤلمة. فخلال تلك اللحظات، يكون التنظيف هو الاستجابة غير الواعية لرغبتنا في الشعور بالسيطرة على ما يحدث حولنا، في خضم فوضى داخلية لا يمكننا فهمها.

تنظيف البيت أم تنظيف الداخل؟

عندما تُخيّم علينا المشاعر الثقيلة، نبدأ في البحث عن شيء يمكننا التحكم فيه، وهنا يأتي فعل التنظيف كوسيلة بسيطة لكنها تمنح شعوراً بالتحكم. في الوقت الذي تعجز فيه الكلمات عن التعبير عن مشاعرنا، يصبح التنظيف وسيلة "عملية" لتنظيم الفوضى الخارجية، في محاولة غير واعية لتطويع الفوضى الداخلية.

الهروب الذي يُشبه الإنجاز

قد يبدو الانشغال بالأعمال المنزلية سلوكاً إيجابياً، حيث يسهم في خلق بيئة نظيفة ومريحة. لكن عندما يتحول هذا السلوك إلى نمط متكرر في كل مرة يشعر فيها الشخص بالحزن أو القلق، يصبح آلية دفاعية. هنا، يأتي الاستبدال بين الشعور والفعل، حيث يسعى الشخص لتجنب مواجهة ألم مشاعره الحقيقية.

قد تقول إحداهن: "كلما شعرت بالحزن، أقوم بترتيب ملابس أطفالي بدقة." لكن في الحقيقة، هي لا ترتب الخزانة، بل تحاول ترتيب حزنها الصامت.

لماذا نهرب من المشاعر؟

الهروب من المشاعر لا يعني الضعف، بل هو تعبير عن الخوف المتراكم من الغرق في تلك المشاعر. فبعض الأشخاص يخشون أن تمنح الحزن أو الغضب أو الخوف مساحة، فيجرفهم. كما أن البعض تربى على فكرة أن الانشغال هو أمر مفيد، وأن التوقف للتفكر في المشاعر يعتبر نوعاً من الكسل.

ومع ذلك، الحقيقة أن دفن المشاعر لا يؤدي إلى إنهائها، بل يجعلها تتراكم. وكل ما نكنسه إلى الداخل يبقى هناك، في انتظار اللحظة المناسبة للظهور.

التنظيف قد يكون تأملاً.. ولكن

لكن ليس كل فعل تنظيف هو هروب. أحياناً، يكون ترتيب المكان وسيلة للتهدئة وتنظيم الذهن. الفارق يكمن في النية والمشاعر. إذا كنت تنظف بدافع الرغبة في العناية بمحيطك، فهذا فعل رعاية. أما إذا كنت تنظف لتتجنب مواجهة نفسك، أو لتكبت دمعة أو تنهيدة، فقد حان الوقت للتوقف وسؤال نفسك: ماذا أحاول ألا أشعر به؟

ما البديل؟

يجب أن نسمح لأنفسنا بالشعور دون حكم. منح مشاعرنا الوقت، كما نمنح المطبخ وقتاً. يمكننا الكتابة، أو التحدث، أو الصمت بوعي. المطلوب ليس الغرق في المشاعر، بل الاعتراف بها. فالفوضى الداخلية لا يمكن ترتيبها بالماء والصابون، بل بالإصغاء.

الهروب بالتنظيف ليس شيئاً يُلام عليه أحد، لكنه يستحق منا التوقف عنده. لأن تنظيف البيت قد يبدو أسهل من تنظيف القلب، لكن الأول لا يغني عن الثاني.

بينما ترتب أشيائك في مكانها، تذكر أن تسأل نفسك: هل تركتَ شعورك بلا مكان؟ وهل آن له أن يُفتح ويُواجه، بدلاً من أن يُمسح ويُخَبّأ؟
المدينة البعيدة مترجم الحلقة 24