السعي المستمر: فخ الطموح غير المحدود

في عصر يتزايد فيه عدد الخيارات وتتعاظم فيه التوقعات، لم يعد الإنجاز مجرد نهاية المطاف، بل أصبح نقطة انطلاق نحو طموحات جديدة. وظيفة مرموقة؟ نحن نتطلع للأعلى؛ منزل واسع؟ نرغب في الأضخم؛ علاقة مستقرة؟ نطمح إلى المثالية التي لا تعكر صفوها أي تفاصيل صغيرة.
وهكذا، نجد أنفسنا في سباق لا يتوقف، نلهث خلف تحسين دائم لا نعلم إن كان نابعًا من طموح صحي أم من فراغ داخلي لا يمكن ملؤه.
لكن ما الذي يجعلنا عالقين في هذا الفخ؟ ولماذا لا نشعر بالرضا حتى عندما نصل إلى ما كنا نظن أنه "الهدف المنشود"؟
دين الروح الحلقة 15
أسباب الوقوع في فخ السعي المستمر
عندما تصبح الحياة ساحة تنافسية بيننا وبين أنفسنا أو الآخرين لتحقيق المزيد، تساهم بعض العوامل في تضخيم هذا الشعور ليتحول إلى نمط حياة. إليك أبرز هذه الأسباب:
العقل.. حين يتحول إلى آلة للمقارنة
منذ الصغر، نُربى على فكرة أن الأفضل دائمًا ممكن. لا بأس بالطموح، لكن عندما يتحول هذا الطموح إلى نمط حياة يتغذى على المقارنة والضغط، يصبح العقل عاجزًا عن التوقف. ننجز شيئًا، فنشعر بلذة مؤقتة، ثم يعود العقل ليذكرنا: "هناك من سبقك"، "يمكنك تحقيق المزيد"، "لا تتوقف الآن". ومع مرور الوقت، تفقد الإنجازات طعمها، ويظل الإحساس بالرضا مؤجلًا إلى محطة قادمة.
السوشيال ميديا.. مرآة مشوهة للواقع
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا بارزًا في هذا الفخ. نرى حياة الآخرين مصفاة ومشذبة، مكللة بالنجاحات، فنقارنها بيومياتنا الحقيقية المليئة بالتحديات. نشعر وكأننا متأخرون أو ناقصون، أو ببساطة "لسنا كافين". وهنا، لا يصبح السعي خيارًا بل ضرورة لتجنب الشعور بالنقص.
عندما يصبح الطموح عبئًا نفسيًا
الخط الرفيع بين الطموح والإرهاق النفسي غالبًا ما يتلاشى في خضم السعي المستمر. عندما لا نمنح أنفسنا فرصة للتقدير والتوقف، يبدأ الجسد والعقل في إرسال إشارات التعب: قلق دائم، أرق، تشتت، وإحساس داخلي بأننا لا نعرف لماذا نسعى من الأساس.
علم النفس يشير إلى أن هذا النمط مرتبط بما يُعرف بـ "الفراغ الداخلي" أو "الهوية غير المتكاملة"، حيث نحاول ملء شعور غامض بعدم الاكتمال بالإنجازات المتتالية، معتقدين أن السعادة تكمن دائمًا في المرحلة التالية.
كيف نخرج من الدوامة؟
لا يُطلب منا التخلي عن الطموح، بل إعادة تعريفه. لننجز، نعم، ولكن دعونا نحتفل أيضًا بما تحقق، مهما كان بسيطًا. دعونا نترك مجالًا للتأمل لا للسعي فقط. علينا طرح أسئلة مختلفة: "هل أنا منسجم مع ما أفعل؟"، "هل هذا السعي يضيف لروحي أم يستنزفها؟".
ويجب أن نمنح أنفسنا الحق في التباطؤ أحيانًا، لا كفشل، بل كاستراحة مستحقة.
في النهاية، نحن لسنا آلات. لا ينبغي أن يكون يومنا مليئًا بالمهام حتى يُعتبر ناجحًا، ولا حياتنا متخمة بالإنجازات حتى تستحق الاحترام. هناك جمال في الاكتفاء، في الرضا، في النظر حولنا والتصالح مع ما بين أيدينا.
السباق الحقيقي ليس دائمًا نحو الأمام، بل أحيانًا... نحو الداخل.