مراسلات جوركي وتشيخوف: أبعاد إنسانية وفكرية

تأتي النسخة الجديدة من كتاب "مراسلات جوركي وتشيخوف"، التي صدرت عن دار "أقلام عربية" في القاهرة، بترجمة جلال فاروق الشريف، لتسلط الضوء على أبعاد إنسانية وفكرية تستحق التأمل، تجلت في تبادل الرسائل بين اثنين من أبرز رموز الأدب الروسي: مكسيم جوركي وأنطون تشيخوف.
تتجاوز هذه الرسائل مجرد التعبير عن مشاعر الود والتقدير المتبادل بين الكاتبين، لتكشف عن حوارات صادقة تتناول قضايا متعلقة بالحياة، الأدب، والمعاناة المشتركة مع مرض السل الذي عانى منه كلاهما.
جوركي: انكسارات روح تبحث عن معنى
في رسائله، يظهر جوركي ككاتب يقف على شفا هاوية نفسية، حيث يتأرجح بين نوبات من الشك واليأس، وبين لحظات نادرة من الأمل. فقد عبر عن قلقه العميق من مفهوم "العبقرية"، وعبر عن شعور بالاغتراب والضعف، قائلاً: "نحن كائنات مثقلة بالضجر، بائسون، محكوم علينا بالضياع... أسهر لأحرس نفسي من الأفكار السوداء".
وفي لحظات ضعفه، كتب: "أنا فظ وثقيل الظل، نفسي مريضة لا شفاء فيها، أتكلم كي لا أقول شيئًا، والروح تبكي بصمت لا يُقال".
تشيخوف: الحكمة المختصرة والكلمة المشجعة
على النقيض من رسائل جوركي الطويلة والمشحونة بالعواطف، جاءت رسائل تشيخوف موجزة ومركزة، كما لو أنه يسعى لإنارة عتمة صديقه. فقد كتب له في إحدى رسائله: "لقد كانت مقالتك عطراً ضمخ روحي... اكتب، فإنك تمتلك قلماً نادراً يستحق أن يطرق ميدان النقد".
وعلى الرغم من بساطة أسلوبه، لم تغب روح الدعابة والإخلاص، كما يتضح من رده على اقتراح جوركي للذهاب إلى الصين، حيث قال: "اقتراحك غريب، لكن الحرب هناك في أوجها، وإن ذهبت فسيكون بصفتي طبيباً عسكرياً".
من الإعجاب إلى الصداقة المتبادلة
في البداية، كانت العلاقة تأخذ طابع التلميذ والأستاذ، حيث أظهر جوركي احترامًا بالغًا لتشيخوف، وعبّر له باعتراف مؤثر: "لا أتحدث إليك فقط لأنني أحبك، بل لأنك تملك القدرة على تحويل كلمة إلى حياة كاملة".
ومع مرور الوقت، تطورت العلاقة إلى صداقة متينة، سمحت لجوركي بأن يوجه نقدًا أدبيًا صريحًا لتشيخوف في إطار من الاحترام والثقة المتبادلة.
تناقضات داخلية: العزلة بين الحكمة والجنون
جوركي، الذي لطالما مجّد الأمل في أدبه، ظهر في رسائله كروح ممزقة بين الرغبة في العزلة وبين الحاجة إلى ضوء الآخر. فقد كتب قائلاً: "سأعيش وحيدًا وسأعمل... العزلة قد تكون بداية الحكمة أو الجنون، لا أعلم بعد". وعندما حاول تقليد عزلة تشيخوف الريفية، جاءه الرد بالنصيحة بأن يهجر الأماكن الصغيرة، ليرد جوركي ببساطة: "لا أحب المدن الكبيرة، سان بطرسبرغ ليست لي".
الموت والخلود الأدبي
رغم تقاربهما في السن وإصابتهما بنفس المرض، كانت النهاية مختلفة، إذ رحل تشيخوف مبكرًا عام 1904، بينما عاش جوركي حتى عام 1936، ليواصل إثراء الأدب الروسي بإرث إنساني وفكري عظيم، يُعتبر من آخر علامات الأدب الروسي الكلاسيكي بعد بوشكين وتولستوي ودوستويفسكي.
دين الروح الحلقة 23
مراسلات تضيء روحين كبيرتين
يمثل هذا الكتاب نافذة نادرة تطل منها القرّاء على البعد الإنساني والوجودي لكاتبين شكلا وجدان القرن العشرين الأدبي. ومن خلال هذه الرسائل، تتضح هشاشة العظماء وصدق الحوارات التي تنشأ حين يجتمع الألم مع العبقرية، حيث يصبح الأدب وسيلة للتطهير والتعبير، وربما النجاة.