الحب: قرار أم شعور مفاجئ؟

على مدى عقود طويلة، كان يُعتبر الحب تجسيدًا لمشاعر عميقة وجياشة، متسللاً إلى حياة الإنسان بشكل مفاجئ، كما تتسلل الأحلام إلى عقولنا. إنه شعور يأتي دون استئذان، ويقودنا في مسار لا يمنحنا فرصة للتفكير أو التروي.
الأدب والسينما قدما لنا صورًا متعددة للحب، محولين إياه إلى لغز غامض يتجاوز حدود السيطرة، حيث يبدو القلب وكأنه كائن مستقل، لا يتأثر بالعقل ولا يخضع للمساءلة. ولكن، هل هذا التصور لا يزال صحيحًا؟
في واقع الأمر، بدأ هذا التصور يتغير مع تطورنا كأشخاص. فقد أصبحنا أكثر وعيًا بأنفسنا واحتياجاتنا العاطفية، وأصبحنا نعرف الحدود التي تحافظ على سلامنا النفسي. ومع نضوجنا، أصبح من الضروري أن نتساءل: هل الحب هو قرار واعٍ يمكن أن نتخذه، أم أنه لا يزال شعورًا يفرض نفسه علينا؟
الحب.. قرار أم وقوع مفاجئ؟

إن لحظة الافتتان هي لحظة لا يمكن التحكم فيها. شيء ما يجذبنا بشكل مفاجئ، سواء كان نظرة عميقة، أو حضورًا قويًا، أو روحًا تبدو كأنها تكملنا. لا يمكن إنكار سحر تلك الشرارة الأولى، لكن من المهم أن ندرك أن هذه الشرارة لا تكفي وحدها.
فالحب الذي ينمو ويستمر يحتاج إلى أكثر من مجرد انفعالٍ لحظي؛ إنه مشروع طويل الأمد يتطلب اختيارات يومية متجددة. أن نحب بوعي يعني أن نحترم مشاعرنا وأن نصغي إلى احتياجاتنا. علينا أن نفهم لماذا جذبنا هذا الشخص تحديدًا، وما الذي يعنيه هذا الانجذاب بالنسبة لنا.
أن تحب بوعي: احترامٌ للمشاعر لا إنكار لها
الحب الواعي لا ينفي وجود العاطفة، بل يعزز طريقة التعامل معها. عندما نحب بوعي، فإننا نستمع لاحتياجاتنا ونتفكر فيما يجعلنا نشعر بالأمان. نحن نختار من يضيف لقيمتنا، بدلاً من من يستهلكها. إنه حب ينبع من امتلاء داخلي يدرك ما يستحقه.
تشير الأبحاث في علم النفس الحديث إلى أن الحب علاقة تتغذى من القرارات اليومية. كيف نتعامل مع اختلافاتنا، كيف نصغي لبعضنا، وكيف نعتذر. الحب كعاطفة هو البداية، أما الحب كقرار فهو ما يحافظ على الحياة في العلاقات بعد أن تخفت اللهفة.
العاطفة وحدها لا تبني علاقة
كم من العلاقات بدأت بعاطفة قوية ثم انهارت عند أول اختبار، لأن المشاعر، مهما كانت قوية، لا تكفي بمفردها. يتطلب الأمر تفاهمًا، واحترامًا، وقدرة على الإنصات والاعتذار.
أظهرت دراسة نُشرت في مجلة Personality and Individual Differences في أكتوبر 2022 أن الذكاء العاطفي، الذي يشمل القدرة على التعرف على المشاعر وإدارتها، يلعب دورًا مهمًا في تعزيز جودة العلاقات. الأفراد الذين يتمتعون بذكاء عاطفي عالٍ يكونون أكثر قدرة على التواصل الفعّال وحل النزاعات بطريقة بناءة، مما يعزز الرضا والاستقرار في العلاقة.
القرار لا يُفقد الحب سحره.. بل يمنحه عمقًا
اختيار من نحب لا يجعل من الحب عاطفة ثابتة أو حسابية، بل يمنحه ثباتًا داخليًا. إنه حب مليء بالمشاعر، لكنه لا يعيش في الفوضى. إنه صادق، لكنه يحترم الكرامة، ودافئ، لكنه لا يغفل الحدود.
في الحب الواعي، نكون حذرين في منح قلوبنا. نحن نعرف متى نستثمر مشاعرنا، ومتى نحميها. ندرك أن الحب الذي لا ينضجنا لا يستحق البقاء فيه، وأن الرحيل أحيانًا قد يكون تعبيرًا عن حب الذات، وليس قسوة على الآخر.
في عالم تتغير فيه العلاقات بسرعة، يظل الحب القائم على الاختيار والوعي والثقة المتبادلة هو الأكثر قدرة على الاستمرار. لأنه لا يعتمد فقط على شعور عابر، بل على إنسانين اختارا أن يكونا معًا رغم كل تقلبات الحياة.
قلب أسود الحلقة 28